حدث ذلك في إحدى ليالي الخريف المُظلمة .
كان المصرفي (صاحب المصرف) العجوز يتنقّل من زاوية لأخرى في مكتبه ،
ويسترجع في ذهنه ما حدث في الحفل الذي كان قد أقامه منذ خمسة عشرعاماً في
فصل الخريف , حيث تواجد فيه العديد من الأشخاص الأذكياء، وجرت أثناءه
الكثير من المناقشات المُمتعة. وكان من بين الأمور التي دارت المناقشات
حولها, أن تطرّق الحديث إلى عقوبة الإعدام ... كان غالبية الضيوف, ومن
بينهم عدد غير قليل من الأدباء والصحفيين, قد أبدوا عدم تأييدهم لعقوبة
الإعدام. واعتبروا بأنها وسيلة عقاب قديمة ، مُنافية للأخلاق كما أنها
لاتتناسب مع دولة مسيحية. وكان رأي البعض الآخر بأن تلك العقوبة يجب أن
تُستبدل ,وعلى الصعيد العالمي , بعقوبة السجن المؤبّد. ثم قال صاحب الدعوة :
"أنا لا أتفق معكم على ذلك. بالطبع
أنني لم أكن قد جرّبت لا عقوبة الإعدام ولا عقوبة السجن المؤبّد ، ولكن
لوكان بإمكان المرء أن يختار الأفضل بينهما ، فأنا أجد بأن عقوبة الإعدام
أكثر أخلاقية وأكثر إنسانية من عقوبة السجن المؤبّد., لأن تنفيذ حكم
الإعدام يؤدي إلى قتل المرء على الفور، بينما تقتله عقوبة السجن المؤبد
بشكلٍ تدريجيّ, فما هو الأكثر إنسانية من بينهما، أهو الشخص الذي يقتلك
خلال ثوانٍ، أم الشخص الذي يستمر في قتلك على مدى السنوات؟ .."
وكان أحد الضيوف قد عَقّب على كلامه بالقول :
"أعتقد بأن العقوبتين تتساويان في
عدم أخلاقيتهما، لأن الهدف منهما واحد، وهو أنك بذلك تكون قد سلب الشخص
حياته. الدولة ليست الله، وليس لها الحق, عندما ترغب بذلك ,أن تأخذ من
المرء ما ليس بإمكانها أن تُعيده..."
وكان من بين أولئك الضيوف أحد المحامين، وهو شاب في حوالي الخامسة والعشرين، كان ذلك المحامي عندما سؤل عن رأيه قد قال:
"برأيي أن كل من عقوبتي الإعدام
والسجن لمدى الحياة تتساويان في كونهما من العقوبات غير الأخلاقية, ولكن لو
عُرض علي الاختيار بينهما, فسوف أختار الثانية بالتأكيد, فمن الأفضل أن
يعيش المرء بطريقة أو بأخرى على ألا يعيش على الإطلاق."
وتلا ذلك نقاشٌ مثير مما جعل
المصرفي, الذي كان حينذاك أصغر سناً وأكثر انفعالية, يفقد سيطرته على
أعصابه. كان قد ضرب بقبضة يده فجأة على الطاولة، ثم استدار نحو المحامي
الشاب وصرخ في وجهه:
"هذا كذب، أراهنك على مليونين بأنك لن تحتمل البقاء في زنزانة ولا حتى لمدة خمس سنوات."
وكان المحامي قد أجابه:
" إن كنت جاداً بما تقوله، فأنا أراهنك على أنني سوف أبقى في زنزانة ليس فقط لمدة خمس سنوات وإنما لمدة خمسة عشر عاماً."
هتف المصرفي " خمسة عشر عاماً! اتفقنا ! أيها السادة، أراهن على ذلك بمليونين."
وقال المحامي " حسناً , اتفقنا ! أنت تراهن على مليونين، وأنا سأراهن على ذلك بحريتي."
وهكذا كان ذلك الرهان القاسي السخيف قد تمّ .
كان المصرفي في ذلك الوقت يمتلك ما لا يمكن إحصاؤه من الملايين، ولكونه شخص فاسق ومزاجي كان قد شعر حينئذٍ بالكثير من الجذل لما جرى.
لكنه أثناء تناول العشاء قال للمحامي على سبيل المزاح:
"فلتعد إلى صوابك، أيها الشاب، قبل
أن يفوت الأوان. المليونان لا شيء بالنسبة إلي، لكنك بذلك سوف تُعرّض نفسك
لإضاعة ثلاث أو أربع سنوات من أجمل أيام حياتك. وأنا أقول ثلاث أو أربع
سنوات لأنك لن تتمكن من البقاء محتجزاً لأكثر من هذه المدة. لا تنس، أيها
الرجل البائس، بأن الحبس الذي يتم بإرادة الشخص أقسى بكثير من الحبس
الإجباري., لأن مجرد التفكير بأن لديك الحق في أن تُحرّر نفسك في أية لحظة،
من شأنه أن يُسمّم حياتك داخل الزنزانة., وأنا أشعر بالشفقة عليك."
كان المصرفي يذرع المكان جيئة وذهاباً ومن زاوية لأخرى وهو يسترجع ما جرى ثم بدأ يُحدث نفسه وتساءل:
"لِم قمت بمثل هذا الرهان ؟ وماهي
الفائدة من ذلك، سوف يخسر المحامي خمسة عشر عاماً من حياته، وسوف أخسر أنا
المليونين. فهل سيكون بإمكاني بذلك أن أقنع الناس بأن عقوبة الإعدام أسوأ
أو أفضل من عقوبة السجن لمدى الحياة؟ لا، لا ! .. كان كل ذلك تافهاً
سخيفاً, ولم يكن الأمر بالنسبة إلي سوى نزوة رجل مَليء أمام جشع ذلك
المحامي للذهب."
ثم تذكّر ما حدث بعد حفل تلك
الليلة. كان قد تقرّر بأن على المحامي أن يُحتجز في أحد أجنحة حديقة منزل
المصرفي تحت رقابة صارمة للغاية. . كما تم الاتفاق على أن يتم حرمان
المحامي خلال تلك الفترة حتى من اجتياز عتبة الباب, ومن الاختلاط بالناس,
وسماع الأصوات البشرية, ومن تلقّي الرسائل والصحف اليومية. وعلى أن يُسمح
له فقط باقتناء إحدى الآلات الموسيقية، وبمطالعة الكتب وكتابة الرسائل
وبشرب النبيذ وبالتدخين. وبأن يكون بإمكان المحامي بموجب ذلك الاتفاق أن
يتواصل مع العالم ولكن بصمت من خلال نافذة صغيرة تم بناؤها خصّيصاً لهذا
الغرض. كما سيكون بإمكانه أن يحصل على أية كمية قد يرغب بها من الكتب
والموسيقى ومن النبيذ بمجرد إرساله حاشية صغيرة عبر النافذة...
وكان قد تم إيراد جميع تلك التفاصيل
الدقيقة في ذلك الاتفاق، مما جعل حبس ذلك المحامي حبساً صارماً مُنعزلاً
يُلزمه بالبقاء مُحتجزاً لمدة خمسة عشر عاماً, وذلك اعتباراً من الساعة
الثانية عشرة من الرابع عشر من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من العام 1870
وحتى الساعة الثانية عشرة من الرابع عشر من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من
العام 1885. كما نصّ الاتفاق على أن أقلّ محاولة من المحامي لمخالفة
الشروط المنصوص عنها في الاتفاق وبأن أية محاولة منه للهرب, حتى لو كان ذلك
قبل دقيقتين فقط من الوقت المحدد، من شأنها أن تُحرّر المصرفي من التزامه
تجاه المحامي بدفع المليونين.
وقد تبيّن أثناء العام الأول من
الاحتجاز، كما بإمكان المرء أن يلاحظ من الحواشي المُقتضبة التي كتبها
المحامي, بأن السجين كان يُعاني بشكل رهيب من الوحدة والضجر., وكان صوت
عزفه على البيانو يُسمع من الجناح الذي احتُجِز فيه من الصباح إلى المساء.
وكان الشاب قد رفض شرب النبيذ والتدخين، حيث كان قد كتب ملاحظة قال فيها:
"من شأن النبيذ أن يتسبب في إثارة
الغرائز، والغرائز هي الخصم الرئيسي للسجين, وعلاوة على ذلك، فليس هناك مما
قد يتسبب للمرء بالضجر أكثر من أن يشرب النبيذ الجيّد بمفرده، كما من شأن
التدخين أن يُفسد جو الغرفة..."
وكان قد تم تزويد السجين خلال العام
الأول من الاحتجاز, بكتب ذات الطابع البسيط السهل الفهم مثل الروايات التي
تتحدث عن مشكلات الحب، وبقصص الجرائم والفانتازيا (الخيال) وكذلك ببعض
القصص الهزلية وغيرها.
ثم بدأ المحامي, في العام الثاني, يطلب تزويده بكتبٍ عن الأدب الكلاسيكي فقط, ولم يعد يُسمع صوت عزفه على البيانو.
لكن صوت الموسيقى عاد يَصدح من جديد
في العام الخامس من الاحتجاز, كما كان السجين قد بدأ يطلب تزويده بالنبيذ.
قال من تم تكليفهم بمراقبته بأن كل ما كان يقوم به طوال العام, هو أنه
كان يأكل ويشرب الخمر ثم يستلقي بعد ذلك على سريره., وبأنه كان يتثاءب
كثيراً, كما كان يُحدّث نفسه بغضب. لم يعد السجين يقرأ الكتب, وإنما كان
يجلس لكي يكتب أحياناً طوال الليل ثم يقوم في الصباح بتمزيق كل ما كتبه.,
وكان صوت بكائه قد سُمع أكثر من مرّة.
وكان السجين خلال النصف الثاني من
العام السادس، قد بدأ يدرس وبكل حماس علوم اللغات والفلسفة والتاريخ., وكان
قد انكبّ على تلك المواضيع بكل شغف, مما جعل المصرفي يجد صعوبة في تزويده
بالعدد الكافي من الكتب. كان قد اشترى له بناء على طلبه خلال أربع سنوات
فقط, ما يُقارب الستمائة مجلدٍ., كما كان المصرفي أثناء الفترة التي استمر
فيها شغف السجين بالمطالعة, قد تلقّى منه الرسالة التالية:
"عزيزي السجّان، أنا أكتب إليك هذه
السطور بستِ لغات. فلتقم بعرضها على الخبراء ولتجعلهم يقرؤونها. وفي حال
عدم عثورهم على أي خطأ فيها, أرجو أن تُعطي أوامرك بأن يتم إطلاق النار من
بندقية في الحديقة, وسوف أعلم بسماعي صوت إطلاق النار بأن جهودي لم تذهب
هباء. يتحدث العباقرة في جميع الأعمار والبلدان بلغات مختلفة, ولكن الشعلة
ذاتها تضطرم لدى جميع هؤلاء العباقرة.
آه ، لو كنت تعلم فقط مدى سعادتي لأنني أصبحت الآن أفهمهم!"
وكان قد تم تحقيق رغبة السجين بناء على أوامر المصرفي, بأن تم إطلاق طلقتين في الحديقة.
أما لاحقاً، وبعد مرور السنة
العاشرة، فقد لوحظ بأن السجين كان يجلس دوماً أمام طاولته دون حراك ويقرأ
إنجيل العهد الجديد., وكان المصرفي قد استغرب من أن يكون ذلك الرجل الذي
كان قد قرأ خلال أربعة أعوام ستمائة مجلدٍ في مختلف العلوم, قد أمضى الآن
عاماً كاملاً في قراءة ذلك الكتاب الصغير السَهل الفَهم. ثم كان السجين بعد
ذلك قد استبدل إنجيل العهد الجديد بالكتب التي تتحدث عن تاريخ الديانات
وعن مختلف علوم اللاهوت (علوم الدين).
ثم كان السجين خلال السنتين
الأخيرتين من الاحتجاز قد قرأ عدداً استثنائياً من مختلف الكتب وكيفما
اتفق. ثم توجّه بعد ذلك إلى دراسة العلوم الطبيعية., ثم قرأ كتب بايرون
وشكسبير. وكانت تصلهم منه بذات الوقت بعض الحواشي, التي يطلب فيها تزويده
إما بكتاب في الكيمياء، أو في العلوم الطبية، أو بإحدى الروايات, أو ببعض
الأطروحات التي تتناول المواضيع الفلسفية وعلوم اللاهوت. وكان بمطالعاته
لتلك الكتب أشبه بمن يسبح في البحر بين قطع من حطام سفينة غارقة, وهو بما
فيه من رغبة في إنقاذ حياته , يتمسّك بكل لهفة بقطعة بعد أخرى من ذلك
الحطام.
حدثّ المصرفي نفسه وهو يسترجع كل ذلك:
" في الساعة الثانية عشرة من الغد
سوف يحصل ذلك المحامي على حريته., وسوف يكون علي بموجب الاتفاق أن أدفع له
المليونين. لو كان علي القيام بذلك فسوف ينتهي كل شيء بالنسبة إلي، وسوف
أفلس إلى الأبد...
كان المصرفي قبل خمسة عشر عاماً
يمتلك العديد من الملايين بما لا يمكن إحصاؤه، لكنه لم يعد يجرؤ الآن حتى
على التساؤل أيهما أكثر ما لديه من الأموال أم ما عليه سداده من الديون؟
كان قد قامر بالأسهم وبالمضاربات المالية الخطرة . كما كانت أعماله قد بدأت
تتراجع أيضاً بالتدريج نتيجة ذلك العبث الذي لم يكن بإمكانه أن يُقلع عنه
رغم تقدمه في السن, مما جعله يتحوّل من رجل الأعمال الجريء ,المتكبّر
والواثق من نفسه إلى صاحب مصرف عادي يرتجف أمام كل ارتفاع أو انخفاض في سوق
العملة.
همس المصرفي العجوز لنفسه وهو يضرب رأسه بقبضة يده بيأس:
" ذلك الرهان اللعين. لِم لم يمت
هذا الرجل؟ هو الآن لايزال في الأربعين من عمره., وبذلك سوف يأخذ آخر ما
لدي من أموال ، لكي يتزوج ويهنأ بالحياة ويقامر بالعملة, بينما سيكون علي
أن أنظر إلى كل ذلك أشبه بمُتسّول حسود, وأنا أسمع منه يومياً ذات
العبارات:
"أنا بغاية الامتنان إليك للسعادة
التي أنا فيها الآن, دعني أساعدك! لا, هذا كثير, كثير جداً !... الطريقة
الوحيدة للنجاة من الإفلاس ومن العار هي بموت هذا الرجل."
كانت دقات الساعة قد أشارت للتو إلى
الثالثة صباحاً. بدأ المصرفي يُصغي. كل من في المنزل يغطّ الآن في النوم.
وليس بإمكان المرء أن يسمع سوى صوت حفيف الأشجار التي تئن خارج النوافذ.
فتح المصرفي الخزانة الحديدية وهو يُحاول عدم التسبب بانطلاق أي صوت.,
وأخرج منها مفتاح الباب الذي لم يكن قد فُتح منذ خمسة عشر عاماً, ثم ارتدى
معطفه وخرج من المنزل.
كانت الحديقة مظلمة باردة ., وكان
المطر يسقط بغزارة., وكانت الرياح العاتية الرطبة تعصف بأشجار الحديقة دون
توقف. لم يكن بإمكان المصرفي ,على الرغم من أنه كان يحدّق بعينيه إلى أقصى
مدى, أن يُشاهد لا الأرض ولا التماثيل البيضاء ولا ذلك الجناح في الحديقة
ولا الأشجار. وعندما اقترب من جناح الحديقة نادى الرجل المكلف بالمراقبة
مرتين, ولكن لم يجبه أحد. حدث نفسه:
" من المؤكد أن الرجل المكلف
بالمراقبة قد التجأ في هذا الطقس السيئ إما إلى البيت الزجاجي أو إلى
المطبخ، ولا بد أنه الآن يغطّ في النوم.
فكّر العجوز" لو كانت لدي الشجاعة لإتمام ما أنوي القيام به، فسوف تقع الشبهة على الرجل المكلف بالمراقبة قبل أي شخص آخر."
تلمّس طريقه في الظلام إلى السلالم,
توجّه نحو الباب ودخل إلى ردهة جناح الحديقة. حشر نفسه داخل الممر الضيق
وأشعل عود ثقاب. لم يكن هناك ما يشير إلى وجود أية نفس بشرية في المكان. كل
ما كان فيه سرير بدون ملاءات، ومدفأة حديدية تقبع في إحدى الزوايا, ولم
تكن أختام الشمع التي كان قد تم إغلاق باب غرفة السجين بها قد أزيلت.
وعندما انطفأ عود الثقاب, تسلّل العجوز إلى الداخل عبر النافذة الصغيرة وهو يرتجف لشدّة الاهتياج.
كانت هناك شمعة تلتهب على نحو باهت
في غرفة السجين وكان السجين ذاته جالساً أمام الطاولة, بحيث كان بإمكان
المرء أن يشاهد فقط ظهره ويديه وشعر رأسه . كان أمامه عدد كبير من الكتب
وكانت جميعها تلك الكتب مفتوحة ومُبعثرة هنا وهناك على كلّ من الطاولة وعلى
الكرسيّين وعلى البساط إلى جانب الطاولة.
مرّت فترة خمس دقائق دون أن يتحرّك
ذلك السجين ولا حتى مرّة واحدة. لابد أن مدة السجن التي دامت خمسة عشر
عاماً قد علّمته كيف يجلس دون حراك. نقر المصرفي بإصبعه على النافذة، ولم
يستجب السجين لذلك أيضاً بأية حركة.
اقتلع المصرفي أختام الشمع التي
كانت على الباب بكل حذر, ووضع المفتاح في القفل. صدر عن القفل الصدئ صوت
صرير قاسٍ ثم فُتح الباب. كان المصرفي قد توقع أن يسمع على الفور صوت
صرخة تنم عن المفاجأة أو صوت وقع أقدام. ولكن مرّت فترة من الزمن ظلّ
الهدوء خلالها مُخيماً في الداخل كما كان في السابق. وبذلك قرّر المصرفي
الدخول.
كان هناك أمام الطاولة رجل لا يُشبه
الآدميين في شيء، بحيث يصعب على المرء أن ينظر إليه. كان عبارةً عن هيكلٍ
عظميّ بجلدٍ منُكمش, وشعرٍ طويلٍ جَعد يشبه شعر النساء. كان أشعث اللحية,
بوجه شاحب غائر الوجنتين. كان ظهره طويلاً وضيقاً ، وكانت يده اليمنى التي
يسند بها رأسه الكثيف الشعر على الطاولة, ضعيفة ونحيلة للغاية. كان الشيب
قد خطّ شعره بحيث أصبح بكامله رمادياً . لم يكن بإمكان المرء أن ينظر إلى
وجه ذلك الشيخ الهزيل، أن يُصدق بأنه في الأربعين من عمره فقط . كانت أمام
رأسه المَحني على الطاولة, قطعة من الورق كان قد كتب عليها على ما يبدو
شيئاً ما بتلك اليدّ الهزيلة. فكّر المصرفي العجوز:
" لابدّ أن هذا الشيطان البائس الذي
يغطّ بالنوم يحلم الآن بالملايين. لن يكون علي سوى أن أُمسك بهذا الشيء
نصف الميت وأن ألقي به على السرير, وأن أُخمد أنفاسه بالوسادة لفترة وجيزة.
ولن يكون بإمكان أدقّ الفحوصات بعد ذلك أن تعثر على أية أثر لميتة غير
طبيعية. ولكن دعنا نقرأ أولاً ما كتبه هنا."
أخذ المصرفي الورقة من فوق الطاولة وبدأ يقرأها:
"في الساعة الثانية عشر ليلاً من
يوم الغد سوف أحصل على حريتي، وسوف يكون لي حق الاختلاط بالبشر.، لكنني
أعتقد بأن من الضروري أن أقول لك بضع كلمات قبل أن أغادر هذه الغرفة وأرى
الشمس... أريد أن أعلمك بضميرٍ واعٍ وأمام الله الذي يراني بأنني أحتقر
الحريّة والحياة والصحّة وكل ما يُطلق عليه في كتبك "مباهج الحياة في هذا
العالم".
"كنت لمدة خمسة عشر عاماً, قد
انكببت بكل مثابرة, على دراسة الحياة على الأرض. صحيح أنني لم أكن طوال تلك
السنوات قد شاهدت لا الأرض ولا البشر, لكنني كنت بواسطة كتبك قد شربت
النبيذ الفوّاح، وأنشدت الأغاني، واصطدت الغزلان والخنازير البريّة في
الغابات, وأحببت النساء... كانت النساء الجميلات اللاتي يُشبهن السحب
السماوية التي اختلقها خيال الشعراء العباقرة، يزَرنني في الليل ويهمسْنَ
إلي بقصص رائعة يثمل بها رأسي."
" وكنت بواسطة كتبك , قد تسلقت قمم
إيلبروز ومون بلان وشاهدت منها كيف تُشرق الشمس في الصباح, وكيف ينتشر
الظلام في المساء. شاهدت كيف ينتشر اللون الذهبي الأرجواني على المحيط وعلى
سلاسل الجبال. شاهدت من هناك كيف يخترق البرق الغيوم. شاهدت الغابات
الخضراء والحقول والأنهار والبحيرات والمدن. سمعت صوت غناء جنيّات البحر,
وصوت المزامير, ولمست أجنحة الملائكة التي كانت تطير من حولي والتي كانت
تأتي إلي لكي تتحدث عن عظمة الله ( عزّ وجلّ)... "
" كنت بواسطة كتبك قد رميت نفسي في
قعر الجحيم, وفعلت المعجزات, وأحرقت المدن على الأرض، وقمت بالتبشير بأديان
جديدة، وغزوت جميع الدول..."
" منحتني كتبك الحكمة, وبذلك تكثفت
في جزء صغير من جمجمتي, جميع الأفكار الإنسانية التي لا تَفنى, جميع
الأفكار التي كانت قد اختُلِقت عبر القرون، وأنا أعلم بأنني الآن الأكثر
ذكاءً منكم جميعاً."
"أنا أزدري كتبك، وأحتقر كل ما في
هذا العالم من مباهج ومن حكمة. كل ما في هذا العالم باطل، سهل الزوال،
وهمي, خيالي وأشبه بالسراب... فمهما كنت متكبّراً وحكيماً وجميلاً، وثريّاً
فسوف يمسحك الموت من على وجه الأرض أشبه بفأر وسوف تُصبح تحت الأرض., وسوف
تصبح رفاهيتك وتاريخك وخلود رجالك العباقرة , عبارة عن بركان مُتجمد احترق
بكامله مع الكرة الأرضية."
"أنت مخبول، لأنك مشيت في الطريق
الخطأ. ولأنك اخترت الكذب عوضاً عن الصدق, ولأنك اخترت القبح عوضاً عن
الجمال. وكما أنك قد تعجب لو كان على أشجار البرتقال والليمون أن تحمل
فجأة الضفادع والتماسيح عوضاً عن الثمار، ولو أن رائحة تعرّق الخيول قد
بدأت تفوح من الورود, فأنا أعجب منك أنت، أنت الذي قايضت السماء بالأرض.
ولست أرغب بفهمك..."
" ولكي يكون بإمكاني أن أثبت لك
بالفعل ازدرائي لما تعيش عليه، فسوف أتنازل عن المليونين اللذين كنت حلمت
بهما كما يحلم المرء بالجنة... أصبحت الآن أزدريهما. ولكي أكون قد حرمت
نفسي من حقي بهما، فسوف أخرج من هنا قبل خمس دقائق من الأجل المنصوص عليه،
وهذا ما سوف يُخلّ بشروط الاتفاق."
كان المصرفي بعد أن أنهى قراءة
الورقة، قد أعادها إلى مكانها على الطاولة, ثم قبّل رأس ذلك الرجل الغريب
الأطوار وبدأ يبكي, ثم خرج من الجناح... إلا أنه لم يكن في أي وقت مضى،
وحتى عندما خسر جميع أمواله في البورصة، قد شعر بمثل ذلك الاحتقار لنفسه
كما شعر به الآن. وكان عندما عاد إلى منزله قد استلقى على سريره, لكن
اهتياجه ودموعه منعاه من النوم لوقت طويل...
وفي صباح اليوم التالي, كان ذلك
الرجل البائس المكلف بمراقبة السجين قد أسرع إليه لكي يُعلمه بأنهم شاهدوا
الرجل الذي يعيش في جناح الحديقة يتسلّق النافذة إلى الحديقة، وبأنه توجّه
بعد ذلك إلى السياج المحيط بها واختفى.
حينئذ, ذهب المصرفي مع خدمه على
الفور إلى الجناح الذي كان السجين مُحتجزاً فيه، وأقام البيّنة على هروبه,
ولكي يتفادى الشائعات غير الضرورية, أخذ ورقة التنازل التي كانت على
الطاولة وبعد أن عاد إلى منزله وضعها في خزانته الحديدية وأقفل عليها.
كتب بواسطة: أمل الرفاعي